حين تتأمل في حديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم، تجد نفسك أمام مدرسةٍ ربانيةٍ في البيان 🕌، تتجلى فيها الرحمة كما تتجلى الحكمة، ويظهر فيها حسن اختيار الكلمة كما يظهر عمق الأثر في القلوب. ما كان كلامه صلى الله عليه وسلم عابرًا أو جزافًا، بل كان يخرج من قلبٍ رحيم وعقلٍ حكيم، ليصل إلى القلوب والعقول فيحركها نحو الخير .
لقد كان حديثه منارة وضوح وفصاحة 💡. لم يكن يسرع في الكلام ولا يسترسل بلا هدف، بل كان يتحدث بكلامٍ بيّنٍ، منظمٍ، يحفظه كل من جلس إليه، كما لاحظت ذلك السيدة عائشة رضي الله عنها، فشهدت أنه لم يكن يسرد الحديث كسرد الناس، بل كانت كلماته تنزل على القلوب بميزان:
"ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد سردكم هذا، ولكنه كان يتكلم بكلام بين فصل يحفظه من جلس إليه."
وفي حرصه العجيب على أن يصل المعنى لكل مستمع، كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا، لا يمل من التكرار حتى يطمئن أن الجميع قد وعى مقصوده. هكذا كان أنس بن مالك رضي الله عنه يصف معلمه الأول، الذي لم يكن يسهو عن حاجات النفوس للفهم والبيان:
"كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا حتى تُفهم عنه." 🔄
وما أجمل تلك البدايات التي يبدأ بها رسوله الكريم مجالسه وحديثه، إذ يغمر الجالسين بالسلام والكلمة الطيبة . كان يدعو إلى بث الأمان بين الناس بقوله:
"تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف."
فيصبح المجلس بحديثه روضة محبة وألفة .
أما صوته، فكان هادئًا لينًا، لا يعرف الغلظة أو الفظاظة ☁️. شَهِد له القرآن بذلك حين قال:
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}
فكان لطفه في حديثه مفتاح القلوب، ورفقه سبب اجتماع الناس حوله 🗝️❤️.
وكان التبسم لا يفارق حديثه ، يدخل السرور على من يكلمه ويشعره بقيمته، حتى قال عنه جرير بن عبد الله رضي الله عنه:
"ما رآني النبي صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي."
ذلك التبسم لم يكن شكلاً، بل كان جسرًا إلى القلوب، ودواءً للجراح .
ولم يكن احترامه للناس في حديثه شيئًا عابرًا، بل كان أصيلاً في سلوكه. كان يصغي للمتحدث بكامل انتباهه، لا يقطع عليه كلمته، بل يقبل عليه بوجهه حتى ينتهي، حتى يشعر كل إنسان أنه محل تقديرٍ واهتمامٍ خاص .
وكانت كلماته لا تخرج إلا طيبة، تدعو إلى السلام، وتحذر من الأذى، كما قال:
"المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده."
فقد جعل من لسانه منبع خير وبركة، وعلم أصحابه أن الكلمة مسؤولية.
ولم يكن غريبًا أن يستعمل الأمثال والتشبيهات ليقرب المعنى ويثبته في النفوس، كما في حديثه عن الجليس الصالح والجليس السوء، فشبّه الأول بحامل المسك والثاني بنافخ الكير، ليجعل الصور حية في الأذهان، والمعنى راسخًا في القلوب:
"إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير..." ⚖️
أما حديثه عن النفع فكان جليًا، فلم يكن يتكلم إلا فيما يعود بالخير، وكان يحث على ذلك بقوله:
"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت." 🕯️
وهكذا، جعل للكلمة قيمة، وجعل الصمت زينة حين لا يكون في الكلام خير.
وكانت حكمته في الحديث تظهر في مخاطبته للناس على قدر عقولهم 🧩، فلا يحملهم فوق طاقتهم ولا يحدثهم بما لا يفهمون، بل يختار لكل مقام مقوله، ولكل عقل ما يناسبه من البيان.
هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم، حديثه هداية، وكلماته نور، وأسلوبه رحمة . من أراد أن يتعلم فن الحديث، أو يترك أثراً في النفوس، فليقتدِ بمن كان كلامه وحيًا وهدى، ورحمة للعالمين.